في الحقيقة إني لأستصغر نفسي أمام محاولة الكتابة عن حياة شخص عبقري ، الذي كان رمزا للعلوم الإسلامية ، خصوصا للحديث النبوي الشريف بديار باكستان ، به تنعش الأرواح وتحي القلوب ، وتتعمّر بذكره المجالس العلمية ، ويفتخر به التاريخ - والمعركة كانت أضخم من أن يخوض فيها أمثالي من الطّلبة ، الذي ليس لديهم إلّا بضاعة مزجاة من العلم والعمل ؛ لكن أولا: بموجب قول بعض السّلف عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، أردت أن أكون من الذين تنزل عليهم رحمة الله ، لأن حب الصالحين ودراسة سيرهم والا ستماع إلى أخبارهم ، مما يثلج صدور المؤمنين . وثانيا: امتثالا لأمر الأستاذ د عمر قورقماز مستشارلرئيس الوزراء التركي إذ أمرني بكتابة بعض خصائص شيخناالكريم ؛ فحاولت أن أقدم نبذة من حياته ، إلى سعادة أهل العلم
ولست اجد لنفسي مثلا إلّا كقول الشاعر الفارسي :
حکایت ازآں قامت دلنواز کنم
از این بھانہ مگر عمر خود دراز کنم ۔
( يعني : وليس القصد من وراء ذكري قامتها الّلطيفة ، إلّا أن يتسسب لزيادة عمري وطول حياتي )
وقال سيدنا الإمام الشافعي :
أحب الصالحين ولست منهم لعل ّ الله يرزقني صلاحا ً .
أبصر الشيخ – رحمه الله - النور في بيت عبد العليم خان الافريدي في أسرة مشهورة بالعلم والصّلاح في قرية حسن بور لوهاري ، التابعة لمدير مظفر نكر ، الهند ، سنة 25 من الكانون الأوّل 1925م . ونال تعليمه الابتدائي في قريته ، على يد الأستاذ منشي الله بنده ، وكان رجلاً ورعاً وزاهدا ، إذيقول الشيخ بنفسه
: لم أر مثله رجلاً صالحاً ، يكثر الذكر والصّلاة ، يختم القرآن الكريم كل يوم ، رغم أنه لم يكن حافظا للقرآن !
ثم ارتحل الشيخ إلى مدرسة مفتاح العلوم ، وتلمّذ على الشيخ المصلح ، والعالم الرّباني مسيح الله خان – رحمه الله - ثم انتقل إلى أزهرالهند ، أم المدارس الإسلامية بآسيا ، دارالعلوم ديوبند – رحرسها الله – فنهاك تضلّع الشيخ المرحوم ، وترعرع في كنف المشايخ الكبار ، والشّخصيات الدينّية البارزة الأخرى ، كشيخ الأدب العلامة إعزاز علي ، ( أديب ومحشي الكتب الكثيرة ) وشيخ الحديث محمّد إدريس الكاندهلوي ( صاحب التفسير معارف القرآن 8مجلدات وأحكام القرآن ( عربي ) و التعليق الصبيح ( شرح مشكاة المصابيح 8 مجلدات ) وسيرة المصطفى ( أردو 3 مجلدات ) وغيرها من المؤلفات القيمة ) وشيخ العرب والعجم السيد حين المدني – رحمهم الله تعالى – فقرأ عليهم الصّرف والنّحو والمنطق ، والفلسفة والفقه وأصوله والحديث الشريف ، لكنّه – رحمه الله – في السلوك والتصوّف ، كان متأثراً بشيخه مسيح الله خان غاية التأثر ، وتأثر بتربتيته في اتباع السنّة والمداومة على الذّ كر والاجتهاد في العبادة . يقول الشيخ – رحمه الله - :
والذي أحدث تغيرا أبرز في حياتي ، وانقلابا عظيماً في مشاعري الدينية ، والإحساس الحقيقي بحسن العمل الصّالح ، وبالتالي الشوق إليه ، وقبح السيئات، والتنفّرعنه ، والتركز على التخلق بالأخلاق الفاضلة النبيلة ، والولوع البالغ لأن أن أكون من أهل الدّين هو الشيخ المرشد مسيح الله خان – رحمه الله – فهذه كلّها ثمرات تلك الساعات الّتي أمضيتها في كنفه . على أني – لإ غواء نفسي و الشيطان – لم أستطع أن أحقق طموحي من نيل تلك الدرجات ، لكن أشكر الله تعالى – بأني لم أزل متشبثاً بذيول ألئك البررة ، راجيا من الله سبحانه وتعالى أن يعاملني بالعفو والعافية .
كما كان متأثراً في علم الحديث بغزارة علم شيخه حسين أحمد مدني – رحمه الله – حيث قال :
و أمّا إلمامي بعلم الحديث ، فببركة الشيخ حسين أحمد المدني ، كان درسه للجامع الترمذي يستغرق ساعتين ونصف ، متراكمة الأطراف ، بحيث يبحث فيه عن الأ دب والكلام والسياسة ولجرح والتعديل والحديث والفقه وأصوله .
حفظ القرآن الكريم في أقل من شهر!
وقد رزقه الله الذّكاء المفرط ، والذهن الثاقب ، والحفظ السريع المدهش ، ففي الأيام التي كان يدرس في دارالعلوم ديوبند ، مرّة رجع إلى قريته في الإجازات الصّيفيّة ، إذ أظل عليهم شهر رمضان المبارك ، فأراد أن يحفظ كل يوم ربع جزء ، ويقرأه لا حقاً في التراويح ، لكنّه لمّا بدأ يحفظ ، يتجاوز الجزء الكامل ، ودام هكذا ، حتّى حفظ القرآن الكريم – كلّه – في سبعة وعشرين يوماً .
وأنا بنفسي شاهدت في درس الحديث ، إذا بدأ يذكر أقوال الشّراح و أصحاب المذاهب وأدلتهم ، كنّا نندهش ، كأن الكتب كلها مفتوحه أمامه . رحمه الله . ونقول في ما بيننا إن كانت هذه ذاكرة سليم الله خان ، فماظنّك بذاكرة العلامة أنورشاه الكشميري ، أو العللامة ابن حجر – رحمهم الله – العسقلاني ؟ كما كان يميّز الغائبين من الدرس من بين 335 طالب دون كتابة أسماءهم . بل كلما يأتي إلى الدّرس ينظر إلى وجوه بعض الطّلبة ، ويقيمهم ثمّ يقول لهم : لماذا كنتم غائبين بالأمس ؟ والطالب يعترف أو يعتذر!
ثمّ تخرّج الشيخ رحمه الله من دارالعلوم ديوبند سنة 1942م وعيّن مدرسًا في مدرسة مفتاح العلوم جلال آباد ، الهند ، ثم درّس في أشهر المؤسّسات التعليميّة في باكستان ، إثر هجرته إلى باكستان ك دارالعلوم كراتشي ، وجامعة العلوم الإسلامية بنوري تاؤن ، حتّى قام بتأسيس الجامعة الفاروقية سنة 1967م والجامعة – الحمد لله – الآن تعدّ من أكبر جامعات دينيّة بباكستان ، يدرس فيها الآف من الطلبة من شتّى دول العالم . و كان الشيخ خادماً للعلوم النبوية وخاصة علم الحديث منذ نحو قرن،
وفي السنة 1980م اتنخب رئيساً "لمنظّمة وفاق المدارس العربية" بباكستان( المسجّلة لدى الحكومة ، ومعترفة بمعادلة شهاداتها كشهادة الماجستير في العلوم الإسلامية والعربية بموجب ، )
قرار صادر من وزراة المعارف الباكستانية
)ACACD- SKM 1982(
أكبرهيئة تعليمية دينيّة ،الّتي تشرف على عشرين ألف مدرسة ، وهي الّتي تطلق عليها " الوفاق جمعية المليون حافظ وفي الآونة الأخيرة تمّ تكريم الوفاق بجائزة من قبل رابطة العالم اللإسلامي بحضور حشد كريم من العلماء والدعاة البارزين ، على إعداد مليون حافظ ، لأنّ السنة 1435هج بلغ عدد من يحفظ كتا ب الله إلى 63553 والذين نالوا شهادات لمراحل دلااسيّة مختلفة يزيد عددهم عن ثلاثة ملائين ، فالمجموع الذين حصلوا على الشّهادات من الوفاق قرابةأربعة ملايين شخص – من بين طالب وطالبة .
تصانيف الشيخ :
قد خلّف الشيخ – رحمه الله – مؤلّفات عديدة ، مترجمة إلى لغات عديدة ، أشهرها كالتالي :
1.كشف الباري عما في صحيح البخاري. والّتي طبع منها 16 مجلّد ، من كراتشي ، ونال قبولا واسعا لدى دارسي الحديث ومدرسيه ، الناطقين بالأردية 2. ونفحات التنقيح شرح مشكاة المصابيح في 3 مجلّدات . من أو سع الشروح الأردية للحديث .
3. الإمام البخاري وأعماله .
4. تفسير كشف البيان . 5
. اتحاف الذّ كي بشرح الجامع للترمذي
6. الأربعينات
7. صداي حق .
8 .مجلس علم وذكر
. 9. تسهيل الأدب 10
. المحدّثون العظام وكتبهم
.11. الإمام البخاري ، حياته وخدماته
. 12 . القول السليم في مبادئ التاريخ والتّقويم
13. صداءے وفاق
كما أنه تلمّذ عليه آلاف وآلاف من الطلبة ، من أبرز الشخصيات الإسلامية من شتى دول العالم ك كانكلترا و أمريكا و استراليا ، و كورية وفرنسا نارويج و ألمانيا ، و إفريقيا الشّمالية ، وماليزيا و بنغلا ديش و بورما و الهند والسّعودية العربية والإمارات المتحدة وعمان وإيران.
نبذة من خصائصه .
1.المحافظة على الصّلوات مع الجماعة
كان شيخنا - رحمه الله – شديد المحافظة على صلاة الجماعة وكان ينصح ، ويحثّ تلامذته على محافظة الجماعة ، فكنا نراه كان يأتي المسجد ( رغم كبر سنه ومرضه) مبكراً ، قلّ من يسابقه ! كما كان - رحمه الله - يراعي الأداب والسنن والأدعية الماثورة بكل دقة . وكان ينصحنا بقوله : كل ما تلوثتم بارتكاب معصية ، أو حرَضتكم نفسكم على ارتكاب المناهي ، أو واجهتكم مشكلة في الرزق فعليكم بإعادة النظر على صلواتكم ، ستجدون خللا فيها ، لأن الصّلاة دواء للمعاصي ، يقول تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . ومفتاح كفالة الرزق يقول تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ، لا نسألك رزقا نحن نرزقك ! و يحيل على الحديث : أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عيينه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له.
فالرجل المريض لو يتناول الدواء لكن لا يجد فائدة ، دكتور يشير عليه بإعادة النظر في تناول الأدوية ، ويظن بأنه سيكون هناك خلل ؛ كما أنه – رحمه الله – كان يحثّنا على حسن الظن بالله ؛ قائلا : الهنا كريم ورحيم لا نهاية لكرمه وفضله ؛ فهو لم يخلقنا لأن يعذبنا أو يذلنا أمام الخلق ، وكيف وقد قال : مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ! (متلذذا بقراءة هذه الأية ومترددأ إياها ) كان يقول : آية عجيبة ، وكلماتها تصرخ بأنها لا يمكن لتكون اختلاق أحد، وإنما هو كلام للرحيم الشكور الذي لا نهاية لرحمته وفضله !
2.الصّدق والشفّافية في المعاملات
كان – رحمه الله – ينصحنا دائماً ، بالشّفافية البالغة في المعلات ، خصوصا في المعاملات المالية وكان يقول : تدين العالم والطالب للعلوم الشرعية لا يعرف بصلاته ولحيته وأخذ المسبحة في اليد ؛ فإن هذه الأشياء أصبحت كإضطرار له ، ( أذكر أن الشيخ يقول هذه الكلمات متبسماً : المولوي – العالم بلغة أردو – أصبح مضطرّا على اختيارها ، حيث رزقه مرتبط به ) لأن العالم أو الطالب لو لا يصلي أو لا يربي اللحية ، فمن يكرمه ويبجّله ويجعله إماما في مسجده ومدرساً في مدرسته ؟ وإنما يعرف دينه بشفافية المعاملات ، وأداء حقوق العباد ، وكان يحرضنا على الابتعاد عن الإقراض والاقتراض إلا لحاجة شديدة ، وكان يذكر هذا الحديث المبارك : إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟
3.التواضع
وكان شيخنا – رحمه الله - يحرض طلا به على التواضع والبساطة ، والابتعاد عن التكلف والبروتوكولات ، والالقاب الجوفاء ، وكان بنفسه – رحمه الله – خير قدوة لهذا ، فكانت ملابسه وأحذيته – رغم أنه رزق رغد العيش وسعة الدنيا – بسيطة ومتواضعة جدّا ، وكان يقول : عليكم بالعلم والتقوى ، وعدم التغرر بالألقابات الجوفاء ، والعناوين البارزة ، و ألوان القلانس والجبات والعمائم ؛ وا الابتعاد عن السمعة ؛ فلو تزينتم بهما ، سوف يغنيانكم عن كل هذه الأشياء ، و إلا الجبّة والقبّة لا يغني عنكم شيئاً ، وكان يمثل بشعر سيد نا الإمام الشافعي – رحمه الله –
علَيَّ ثياب لو يُباع جميعها = بِفَلْسٍ لكان الفَلْس منهن أكثرا
وفيهن نَفْسٌ لو يُقاس بمثلها = نفوس الوَرَى كانت أجَلّ وأخطرا
وما ضَرّ نَصْل السّيف إخلاق غِمده = إذا كان عَضْبا حيث أنفذته بَرى
فإن تكن الأيام أزْرَتْ بِبَزّتِي = فَكَم مِن حُسام في غِلافٍ مُكَسّرا َ۔
4. قلّة الكلام وطول الصّمت
وكان رحمه الله طويل الصّمت وقليل الكلام ، ويأمر بذلك طلبته .
كان يراعي حدود الشرع - بعناية فائقة ، ودقّة عالية - في المزاح أيضاً ، مرة كنا في درس الحديث للشيخ بعد المغرب فجاء أحد من أصدقائنا – بالشاي للشيخ –( اسمه الأستاذ فيصل خان – حفظه الله - كان من سكان كراتشي ، و كان أخونا فيصل شديد الحب لجماعة التبليغ بل شديد العشق لها – ) فقلت - مازحاً – مثل هذ اليوم لا يتكرّر ، فردّ الشيخ – رحمه الله فورا قائلا : أنت رميته بالبخل وهذا لا يجوز شرعاً!
5. تشجيع تلا مذتهم على التدريس في الكليات والمعاهد والجامعات الرّسمية
وكان – رحمه الله – يشجّعنا على التدريس في المعاهد والجامعات الرّسمية ، والمدارس الاهلية معاً ، قائلا : أصحاب العلم والعقيدة الصحيحة يجب عليهم أن يدرسوا في الجامعات والكليا ت الرسمية ، لأمرين :
الأول : كثرة عدد الطلاب ، لأن عدد الطلاب في الكليات والجامعات الرسمية أكثر من الذين يردون المدارس الاهلية الاسلامية ، والإمكانيات لديها أكثر بكثير من المدراس الأهلية ، والمتخرجين من مثل هذه الجامعات – عموماً- لا يجدون وقتا كافياً لقراءة أمهات الكتب في كل فن ، فلا يقرؤن إلا بعض الكتب أو المختصرات ، إضافة إلى ضعف منهجهم و قلة اهتمامهم بالدروس في كلا نوعي العلوم – آلية وعالية – و هذا يورث الضعف العلمي فيهم ، كما أنه يتطرق إلى بعض منهم الضعف الفكري - وربما العقدي - نتيجة احتكاكهم بألوان الافكار قبل التركز على الفكر الصحيح والترسخ على المباديات – فنطاق الافادة والاستفادة فيها أوسع ، من كل النواحي ، كما أن تركها شاغرة وفريسة لأفكار فاسدة أيضاً لا يقلّ ضرره ! فلو لم يذهب إلى مثل هذه المعاهد العلمية رجل سليم الفكر ، صحيح العقيدة ، راسخ العلم ،خلفه من لا يوثق بعلمه ولا يرضى بفكره وعقيدته ، ولا يخفى أن ضرره يعود على الأمة في صور مختلفة ، من انكار الحديث الشريف أو الاستخفاف بالمصادرالتشريعية وأئمة الدين ؛ أو اتيان بغرائب التفسير للكتاب والسنة ، التي لا تتفق مع مبادئ الشرع ومقاصدها !
6. الالتزام بمواعيدالدروس والحصص
وكان – رحمه الله – شديد الالتزام بمواظبة الحضور ، فما رأيناه – في ثلاث سنوات - يوما تأخر عن درسه قدر خمس دقائق ، مثال في السنة السابعة ، كان يدرسنا كتاب العلم من مشكاة المصابيح ، وكان يبتدأ درسه في الساعة 7:00 بتوقيت باكستان ، والصحيح البخاري في دورة الحديث ، ودرسه كان يبتدأ في الساعة ثامنة صباحاً ، وبعد المغرب مساء ، فمارأيته – ولو يوماً – تأخر عن الدرس قدر5 دقائق ، كما أنه كان يغضب على من لا يحضر الدرس قا ئلا :
إن الغياب عن الدرس يورث محق البركة والنورانية ، وكان يقول الدروس التي غبت عنها أوان حياتي الدراسية ، اليوم – لو أقرأها – الحمد لله افهمها- لكن أفقد ذلك النور والبركة التي أجد في غيرها من الدروس التي حضرت فيها ، وكان يقول : يغضب على من حضر الدرس بدون الوضوء ، قائلا : إن مشايخنا لم يوثر عنهم تدريس لمنطق والفلسفة اليونانية أيضا بدون الوضوء ، فكيف لطالب الشرعي أو المدرس أن يدرس الفقه أو الحديث .... بدون الوضوء ؟؟
7. عزو الاقوال إلى قائلهاوالعبارات إلى مصادرها ألأصلية وعدم الإعجاب برأيه !
من المصائب العلميّة التي ابتلينا بها ، الانتحال وإعجاب كل شخص برأيه ، فنرى اليوم كثيرا من أمثالي المتطفلين ينفردون بأراء وأقوال ، وينسبون أقوال الأخرين وآراءهم إلى أنفسهم ،
لكن كان شيخنا – رحمه الله – بعيدا عن هذا كل البعد ، فكان – رحمه الله – شديد الالتزام على عزوالاقوال إلى قائليها ، فكان كل مايذكر شيئا من الأقوال والأراء العلمية ، ينسبها إلى من قالها ، أو كتاب درس فيه ، وكان يبغض وينهى الأخرين عن الانتحال العلمي ، و إذا أبدأ رأيه ، يصرح بأنه رايه ، ولم يصر عليه كما أنه يرجع عنه إذا تبين خطأ ه ، فرأيته أكثر من مرة جاء برأي في الدرس ، لكن في الغد يرجع عنه ويقول : بالأمس قلت هكذا ، أو فسرت هذا الحديث هكذا ، ( يذكره بطول ) لكن بعد ذلك تنبهت على خطأي ، فذلك ماقلت بالأمس هو غير صحيح ، بل الراجح قول فلان أو رأي فلان ؛ فسبحان الله أن شخصيته العلمية البارزة ، لم تكم تحجبه عن الرّجوع إلى الصدق والصواب والاعتراف بالخطأ الذي لا يخلو عنه بشر؛
وهنا ننقل لكم عبارة الشيخ في بداية كتابه كشف الباري ، كتاب المغازي ، التي ستلقي الضوء على ما قلنا آنفاً :
هذا الرجل – أحقر عباد الله – عزوجلّ – ( يريد به نفسه ) قد أكثر الاستفادة من الكتب والحواشي للشيخ الحديث محمد زكريا الكاندهلوي ، بل حياتي التدريسيّة كلّها ، عبارة عن الاغتراف من الفضالات الّتي خلّفها ، والا قتطاف من تلك الأ زهار العلمية ، التي تمّ غرسها بأنامل الشيخ زكريا – رحمه الله – المباركة ، في بساتين " الكوكب الدرّي " شرح جامع الترمذي و " بذل المجهود شرح السنن لأبي داؤد و " أوجز المسالك شرح الموطّا إمام مالك و " لا مع الدّراريرشرح الصحيح للبخاري –( رحم الله مصنفيها ) إضافة إلى مآثره العلمية الأخرى ، فاستفدت منها ، مرّة بعد أخرى ، لذ لك أرى أن الفضل في مسيري إلى علم الحديث يرجع إلى الشيخ – رحمه الله – بعد شيخ الإ سلام السيد حسين أحمد المدني – نورالله مرقده – وأنا معترف له بالإ حسان بعد شيخي المدني ر حمه الله .
ومرّة كان يعلّمنا كيف نصلى مع مراعاة الأداب والسنن ( عمليّاً ) كما كان دأبه ، فقال لنا شيئا حول رفع الأصبع في التشهد الأخير ، ثم في اليوم التالي جاْ ء مبكراً من وقته وقال : بالأمس قد قلت لكم شيئا .... لكن الرّاجح ماقال العلّامة ظفر أحمد العثماني – رحمه الله – في كتابه ، ورأيي مرجوح ، فلا يجوز لكم أن تأخذوا به !
8.الاحترام البالغ للأئمة الكرام و المؤلفين – رحمهم الله –
ومن الرّزايا التي عمت بها البلوى - في أكثر البلاد ، في وقتنا الرّاهن هو عدم الالتزام بمبادئ الادب للسلف الصالحين – رضي الله عنهم – و استخدام اساليب الّتي لا تفي بمقتضيات الاحترام لهم ، ولا تليق بشخصياتهم المباركة ، فنرى كثيرين من ا لمتعالمين ممن يسمون مفكرين أو من يحمل دبلوما أو شهادة ، يروح ويوجه سهام النيل إلى جناب السلف الصالحين خصوصاً الأئمة الأربعة – رضي الله عنهم – قائلا : نحن رجال وهم رجال ؛ مع أن مبلغ علمه لا يتزايد عن قراءة بعض الأوراق المترجمة أو المختصرات من الكتب؛ ويخطّئ كل من لا يوافق عقله أو رأيه المستورد ؛ كما أن بعضاً منهم يسيؤن الأدب إلى جناب الأئمة – رحمهم الله - لشدّة تعصبهم لمذهبهم ؛ صحيح أن السلف – رضي الله عنهم – لم يكونوا معصومين ، ولا ندّعي لهم العصمة – والعياذ بالله – ولكن لهم علينا فضل وإحسان إذ أنهم سبقونا بالإيمان والإخلاص لله ، والعمل الصالح وخد مة هذا الدين ، وترك مآثر علمية بارزة ، التي لسنا عنه بغنى ؛ فيجب أن تكون صدورنا منشرحة لهم ، ومقدّرة لخدماتهم الرّائعة العلمية ، ولا تضيق قلوبنا عن الاعتراف لهم بالجميل كما لا نبخل عن الثناء الحسن ، والدّعاء و التماس العذر لهم ، ونغض البصر عن زلا تهم ، التي لا يخلو عنها انسان وبشر، فو نختلف مع أحد منهم أو من غيرهم نختلف بعلم وإن نتفق نتفق بعلم ، فكان شيخنا رحمهم الله شديد الالتزام بالادب للمصنفين والائمة – رحمهم الله – وكان يكمّن الاحترام البالغ لهم ، وينصح طلابه به .
9. شرح القضايا الصعبة العلمية بطريقة مريحة للغاية
ومن مزايا دروس الشيخ – رحمه الله – كان يشرح المسائل الدقيقة العلمية بطريقة مريحة وسهلة للغاية بحيث يفهمها كل أحد ، فحينا يأتي بمثال وأخر يأتي بطريفة علمية ، ينثر التبسم والنشاط على وجوه الدّارسين ؛ إلى جنب زيادة الشّوق إلى الدرس ، فكان يدرّس ساعات عد يدة متوالية لكن لم نكن نجد مللا ؛ وهنا يحسن بنا أن نذكر عبارة العالم الجليل ، من أفذاذ هذا العصر وجهابذته ، الشيخ العلّامة تقي العثماني – حفظه الله ورعاه – حول دروس الشيخ ، فندع القاري الكريم مع الشيخ المبجّل يحكي قصّته بكل صدق وصراحة ؛ إضافة إلى مافيها من الحب والاحترام لشيخه والتواضع الذي أشربت به قلوب رجال هذه الأمة .
يقول الشيخ : أنا أحقر العباد – يريد الشيخ حفظه الله نفسه – لم أزل أتشرف بالتلمّذ على شيخي العظيم الأستاذ سليم الله خان منذ ثلاث وأربعين عامّاً ، ففي السنوات الثلاثة الأولى كانت دراستي عليه تدوم بشكل منسّق ورسمي ، ففي هذه الفترة قد تشرفت بقرآءة بعض الكتب المهمّة على جنابه، من الهداية ( الثالث والرابع ) في الفقه الحنفي ، والمبيذي في الفلسفة وعلم النفس والجامع الترمذي في الحديث ، وبعد ذلك أيضاً - تداومت – والحمد لله - سلسلة الاستفادة من علوم الشيخ بشتى طرق ممكنة .
وكان أسلوبه الرّشيد ،لإ لقاء الدّرس يجذب إليه قلب كل مصغ ، وينال إعجاب كل دارس على السويّة ؛ فبتعبيراته الفريدة تنضبط جميع أشتات الدرس ويسهل فهم القضايا الصّعبة على الكل ، وهذه الميزة كانت أكثرظهورا في دروسه على الجامع الترمذي ، إذ تنضبط وتتنسّق فيه أنواع المباحث العلمية ، المنتشرة في شتى شروح الحديث بحيث يسهل فهمها وحفظها على أمثالي الطلبة ؛ فشيخنا لم يكتف بتدريس كتاب فحسب ، بل إنه د لّنا على طريق يؤدّي إلى تنسيق وترتيب المباحث المنتشرة في الكتب المختلفة ، وجمعها وتقريبها إلى الفهم . فأسلوب درسه المتميز – رحمه الله – خالد الذكر لدى وكل من وفّق للاشتغال بالأنشطة العلمية ، وأتيحت له فرصة التسامرمع العلم وأهله .
ونودّ في نهاية المطاف نذكر كلمة الشيخ الشهيد ، نظام الدّين الشامزئي – رحمه الله – حول الشيخ سليم الله خان ودرسه :
ليكن واضحاً على الكل بأني قمت بأداء واجب التدريس في الجامعة الفاروقية – لدي شيخي - لعدة سنوات ، ثم غادرت منها إلى جامعة العلوم الإسلامية بنوري تاون فلم أزل أدرس فيها منذ اثني عشر سنة – تقريبا ً- واليوم ليست لديّ أي مصلحة دنيوية ، ترتبط مع شيخي الكريم ، وأصرح بهذا لأني سأكتب في السطور القادمة كلمة لعل بعض من الظانين يظنون أني أبالغ في الثناء على الشيخ أو أكتب هذه كلها تملّقاً - حا شا وكلّا – فأقول : أني لم أرأ في حياتي التدريسيّة التي تزيد عن سبع وعشرين عام ، أستاذا ومدرّسا مثل الشيخ سليم الله خان ، الذي يتمكّن كل طالب أن يستفيد من دروسه ، مهما كان يحمل مستوى علمي ، متوسط أو دونه . قد رزق الله شيخنا الكريم حظّا وافراً من ذوق نّادر للبحث والتحقيق ، إلى جنب أسلوب جامع وممتع لإ لقاء الدروس ، قل من تستجمع هذه الخائص كلها في شخص واحد ، لكن الله تعالى قد جمعها فيه .
10. أسلوبه في تدريس الحديث .
أوّلا : في بداية الدّرس أحد من الطّلاب كان يقرأ عبارة الحديث ( مع السّند والمتن ) وكان الشيخ – رحمه الله – يستمع إليه بعناية بالغة ، ويؤاخذ – مؤاخذة شدية - على الأخطا ء في عبارة الحديث ، وترك الصّلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم- و الترضّي على الصّحابة الكرام . ( حتّى فب بعض الأحيان كان يقول مازحا لمن ترك الصلاة على النبي- عليه السلام- أو الترضي على الصحابة – رضي الله عنهم . هذا الّرجل من المماتيين أو الرّوافض ؟ ) كما كان شديد المؤاخذة على الغياب من الدروس .
ثانيًا : دراية الحديث ( كان يتكلّم حول السند ، فينبّه على الرواة الضعفاء ، أو يذكر مزايا السند ، أو الرّاوي ، أويذكر قصّة / طريفة علمية ، دروس وعبر إن وجدت ويشرح الكلمات الغريبة لغة ونحوا ، كما أنه – رحمه الله –)
ثالثًا : فقه الحديث ، يذكر فيه مذاهب الفقهاء في المسائل ( العقدية والعملية ) بالتّفصيل
رابعاً : مستدلاتهم بالتفصيل ( لكن دائما يذكر مذهب ساداتنا الحنفية و أدلتهم في النهاية ) كما كان – رحمه الله – إلى القول المفتى به . ولو كان على مذهب غير الحنفية . مثلا في كتاب المغازي حول مسألة " دخول الحرم بغير إحرام " يجوّز دخول الحرم للسواق وغيرهم ، مع أن أصل مذهب ساداتنا الحنفية هو عدم الجواز .
خامساً : يقارن بين الأدلّة ، ويجيب ويرجّح . تلك عشرة كاملة
وفاته
انتقل إلى رحمة الله – هذا المحدث الجليل ، والدّاعية الكبير ، الّذ ي كانت به تحيا الأرواح ، وتنعش النفوش ، وتستمرّ النّضارة على وجوه طلاّب الحديث ، وتنجذب إليه قلوبهم فيردون عليه من كل فجّ عميق . ولا غرو إنه كان من الّرعيل الأول في مضمار الحديث - بعد حياة علمية حافلة بالعلم والحديث. من 15 من يناير 2017 م وكان يناهز من عمره 92 سنة .
فصبيحة 16 من الكانون الأوّل ، أهل كراتشي لم يد فنوا شخصا واحدا فقط ، و إنّما قاموا بتود يع ذاكرة ابن حجرالعسقلاني ، وفقه بد رالدين العيني ، وحكمة شاه ولي الله الدّهلوي ، وأدب إعزاز على ، و تدريس حسين أحمد المدني ، وتصوّف أشرفعلى التهانوي وبساطة القاسم النانوتوي – رحمهم الله- فسعيد من زار وجهه ، وشارك في ترحيله إلى دارالأخرة .
وما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ * ولكنهُ بنيانُ قومٍ تهدما.
Comments
Post a Comment